فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (7- 9):

{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9)}.
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل، خافت القبط أن يُفْني بني إسرائيل فَيَلُون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة. فقالوا لفرعون: إنه يوشك- إن استمر هذا الحال- أن يموت شيوخهم، وغلمانهم لا يعيشون، ونساؤهم لا يمكن أن يَقُمْن بما يقوم به رجالهم من الأعمال، فيخلص إلينا ذلك. فأمر بقتل الولدان عامًا وتركهم عامًا، فولد هارون، عليه السلام، في السنة التي يتركون فيها الولدان، وولد موسى، عليه السلام، في السنة التي يقتلون فيها الولدان، وكان لفرعون أناس موكلون بذلك، وقوابل يَدُرْنَ على النساء، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها، فإذا كان وقت ولادتها لا يَقْبَلُها إلا نساء القبط، فإذا ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن، وإن ولدت غلامًا دخل أولئك الذبَّاحون، بأيديهم الشفار المرهفة، فقتلوه ومضوا قَبَّحَهُم الله. فلما حملت أم موسى به، عليه السلام، لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها، ولم تفطن لها الدايات، ولكن لما وضعته ذكرًا ضاقت به ذرعًا، وخافت عليه خوفًا شديدًا وأحبته حبًّا زائدًا، وكان موسى، عليه السلام، لا يراه أحد إلا أحبه، فالسعيد من أحبه طبعا وشرعًا قال الله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} [طه: 39]. فلما ضاقت ذرعًا به ألهمت في سرها، وألقي في خلدها، ونفث في روعها، كما قال الله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ}. وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل، فاتخذت تابوتًا، ومهدَت فيه مهدًا، وجعلت ترضع ولدها، فإذا دخل عليها أحد مِمَّنْ تخاف جعلته في ذلك التابوت، وسيرته في البحر، وربطته بحبل عندها. فلما كان ذات يوم دخل عليها مَنْ تخافه، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت، وأرسلته في البحر وذهلت عن أن تربطه، فذهب مع الماء واحتمله، حتى مر به على دار فرعون، فالتقطه الجواري فاحتملنه، فذهبن به إلى امرأة فرعون، ولا يدرين ما فيه، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها. فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه، فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها؛ ولهذا قال {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}.
قال محمد بن إسحاق وغيره: اللام هنا لام العاقبة لا لام التعليل؛ لأنهم لم يريدوا بالتقاطه ذلك. ولا شك أن ظاهر اللفظ يقتضي ما قالوه، ولكن إذا نظر إلى معنى السياق فإنه تبقى اللام للتعليل؛ لأن معناه أن الله تعالى، قيضهم لالتقاطه ليجعله لهم عدوًا وحزنًا فيكون أبلغ في إبطال حذرهم منه؛ ولهذا قال: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}.
وقد روي عن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز أنه كتب كتابًا إلى قوم من القدرية، في تكذيبهم بكتاب الله وبأقداره النافذة في علمه السابق: وموسى في علم الله السابق لفرعون عدو وحزن، قال الله تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ}، وقلتم أنتم: لو شاء فرعون أن يكون لموسى وليًا ونصيرًا، والله يقول: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا}.
وقوله تعالى: {وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} يعني: أن فرعون لما رآه همَّ بقتله خوفًا من أن يكون من بني إسرائيل فجعلت امرأته آسية بنت مزاحم تُحَاجُّ عنه وتَذب دونه، وتحببه إلى فرعون، فقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ} فقال: أما لك فَنَعَم، وأما لي فلا. فكان كذلك، وهداها الله به، وأهلكه الله على يديه، وقد تقدم في حديث الفتون في سورة طه هذه القصة بطولها، من رواية ابن عباس مرفوعًا عن النسائي وغيره.
وقوله: {عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا}، وقد حصل لها ذلك، وهداها الله به، وأسكنها الجنة بسببه. وقولها: {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} أي: أرادت أن تتخذه ولدًا وتتبناه، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه.
وقوله تعالى: {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي: لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه، من الحكمة العظيمة البالغة، والحجة القاطعة.

.تفسير الآيات (10- 13):

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)}.
يقول تعالى مخبرًا عن فؤاد أم موسى، حين ذهب ولدها في البحر، إنه أصبح فارغًا، أي: من كل شيء من أمور الدنيا إلا من موسى. قاله ابن عباس، ومجاهد، وعِكْرِمة، وسعيد بن جُبَيْر، وأبو عبيدة، والضحاك، والحسن البصري، وقتادة، وغيرهم.
{إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ} أي: إن كادت من شدة وجدها وحزنها وأسفها لَتُظهر أنه ذهب لها ولد، وتخبر بحالها، لولا أن الله ثَبَّتها وصبَّرها، قال الله تعالى: {لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ} أي: أمرت ابنتها- وكانت كبيرة تعي ما يقال لها- فقالت لها: {قُصِّيهِ} أي: اتبعي أثره، وخذي خبره، وتَطَلَّبي شأنه من نواحي البلد. فخرجت لذلك، {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ}، قال ابن عباس: عن جانب.
وقال مجاهد: {فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ}: عن بعيد.
وقال قتادة: جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده.
وذلك أنه لما استقر موسى، عليه السلام، بدار فرعون، وأحبته امرأة الملك، واستطلقته منه، عرضوا عليه المراضع التي في دارهم، فلم يقبل منها ثديًا، وأبى أن يقبل شيئًا من ذلك. فخرجوا به إلى سوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته، فلما رأته بأيديهم عرفته، ولم تظهر ذلك ولم يشعروا بها.
قال الله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} أي: تحريمًا قَدَريا، وذلك لكرامة الله له صانه عن أن يرتضع غير ثدي أمه؛ ولأن الله- سبحانه- جعل ذلك سببًا إلى رجوعه إلى أمه، لترضعه وهي آمنة، بعدما كانت خائفة. فلما رأتهم أخته حائرين فيمن يرضعه قالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ} لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.
قال ابن عباس: لما قالت ذلك أخذوها، وشكوا في أمرها، وقالوا لها: وما يدريك نصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في ظُؤُورة الملك ورجاء منفعته. فأرسلوها، فلما قالت لهم ذلك وخَلَصت من أذاهم، ذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه، فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحًا شديدًا. وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى، وأحسنت إليها، وأعطتها عطاءً جزيلا وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة، ولكن لكونه وافق ثديها. ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليها وقالت: إن لي بعلا وأولادًا، ولا أقدر على المقام عندك. ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت. فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجْرَتْ عليها النفقة والصلات والكساوي والإحسان الجزيل. فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية، قد أبدلها الله من بعد خوفها أمنا، في عز وجاه ورزق دَارٍّ. ولهذا جاء في الحديث: «مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها» ولم يكن بين الشدة والفرج إلا القليل: يوم وليلة، أو نحوه، والله سبحانه أعلم، فسبحان من بيديه الأمر! ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، الذي يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجًا، وبعد كل ضيق مخرجًا. ولهذا قال تعالى: {فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا} أي: به، {وَلا تَحْزَنْ} أي: عليه: {وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي: فيما وعدها من رده إليها، وجعله من المرسلين. فحينئذ تحققت برده إليها أنه كائن منه رسول من المرسلين، فعاملته في تربيته ما ينبغي له طبعًا وشرعًا.
وقوله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: حُكْمَ الله في أفعاله وعواقبها المحمودة، التي هو المحمود عليها في الدنيا والآخرة، فربما يقع الأمر كريها إلى النفوس، وعاقبته محمودة في نفس الأمر، كما قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216] وقال تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

.تفسير الآيات (14- 17):

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)}.
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى، عليه السلام، ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى، آتاه الله حكما وعلما- قال مجاهد: يعني النبوة {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}.
ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قَدَّر له من النبوة والتكليم: قضية قتله ذلك القبطي، الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين، فقال تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} قال ابن جُرَيج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: وذلك بين المغرب والعشاء.
وقال ابن المنْكَدر، عن عطاء بن يسار، عن ابن عباس: كان ذلك نصف النهار. وكذلك قال سعيد بن جبير، وعِكْرمة، والسُّدِّي، وقتادة.
{فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ} أي: يتضاربان ويتنازعان، {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ} أي: من بني إسرائيل، {وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} أي: قبطي، قاله ابن عباس، وقتادة، والسدي، ومحمد بن إسحاق. فاستغاث الإسرائيلي بموسى، عليه السلام، ووجد موسى فرصة، وهي غفلة الناس، فعمد إلى القبطي {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ}.
قال مجاهد: وكزه، أي: طعنه بجُمْع كفه.
وقال قتادة: وكزه بعصا كانت معه.
{فَقَضَى عَلَيْهِ} أي: كان فيها حتفه فمات، قال موسى: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ. قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ} أي: بما جعلت لي من الجاه والعزة والمنعة {فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا} أي: معينا {لِلْمُجْرِمِينَ} أي: الكافرين بك، المخالفين لأمرك.

.تفسير الآيات (18- 19):

{فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالأمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الأرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)}.
يقول تعالى مخبرًا عن موسى، عليه السلام، لما قتل ذلك القبطي: إنه أصبح {فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا} أي: من مَعَرّة ما فعل، {يَتَرَقَّبُ} أي: يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر، فمر في بعض الطرق، فإذا ذاك الذي استنصره بالأمس على ذلك القبطي يقاتل آخر، فلما مر موسى، استصرخه على الآخر، فقال له موسى: {إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ} أي: ظاهر الغواية كثير الشر. ثم عزم على البطش بذلك القبطي، فاعتقد الإسرائيلي لخوَرِه وضعفه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعه يقول ذلك، فقال يدفع عن نفسه: {يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالأمْسِ} وذلك لأنه لم يعلم به إلا هو وموسى، عليه السلام، فلما سمعها ذلك القبطي لقَفَها من فمه، ثم ذهب بها إلى باب فرعون فألقاها عنده، فعلم بذلك، فاشتد حنقه، وعزم على قتل موسى، فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك.

.تفسير الآية رقم (20):

{وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)}.
قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ} وصفه بالرّجُولية لأنه خالف الطريق، فسلك طريقًا أقرب من طريق الذين بُعثوا وراءه، فسبق إلى موسى، فقال له: يا موسى {إِنَّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ} أي: يتشاورون فيك {لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ} أي: من البلد {إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ}.

.تفسير الآيات (21- 24):

{فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)}
لما أخبره ذلك الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره، خرج من مصر وحده، ولم يألف ذلك قلبه، بل كان في رفاهية ونعمة ورئاسة، {فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ} أي: يتلفَّت {قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي: من فرعون وملئه. فذكروا أن الله، سبحانه وتعالى، بعث له ملكًا على فرس، فأرشده إلى الطريق، فالله أعلم.
{وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ} أي: أخذ طريقًا سالكًا مَهْيَعا فرح بذلك، {قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ} أي: إلى الطريق الأقوم. ففعل الله به ذلك، وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة، فجعل هاديًا مهديًّا.
{وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} أي: ولما وصل إلى مدين وورد ماءها، وكان لها بئر تَرده رعاء الشاء {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ} أي: جماعة {يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} أي: تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يُؤذَيا. فلما رآهما موسى، عليه السلام، رق لهما ورحمهما، {قَالَ مَا خَطْبُكُمَا} أي: ما خبركما لا تردان مع هؤلاء؟ {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} أي: لا يحصل لنا سقي إلا بعد فراغ هؤلاء، {وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} أي: فهذا الحال الملجئ لنا إلى ما ترى.
قال الله تعالى: {فَسَقَى لَهُمَا} قال أبو بكر بن أبي شيبة: حدثنا عبد الله، أنبأنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عَمْرو بن ميمون الأوْدي، عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، أن موسى، عليه السلام، لما ورد ماء مدين، وجد عليه أمة من الناس يسقون، قال: فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر، ولا يطيق رفعها إلا عشرة رجال، فإذا هو بامرأتين تذودان، قال: ما خطبكما؟ فحدثتاه، فأتى الحجر فرفعه، ثم لم يستق إلا ذنوبا واحدا حتى رويت الغنم. إسناد صحيح.
وقوله: {ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} قال ابن عباس: سار موسى من مصر إلى مدين، ليس له طعام إلا البقل وورق الشجر، وكان حافيًا فما وصل مَدْيَن حتى سقطت نعل قدمه. وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه، وإن بطنه لاصق بظهره من الجوع، وإن خضرة البقل لترى من داخل جوفه وإنه لمحتاج إلى شق تمرة.
وقوله: {إِلَى الظِّلِّ} قال ابن عباس، وابن مسعود، والسدي: جلس تحت شجرة.
وقال ابن جرير: حدثني الحسين بن عمرو العَنْقَزِيّ، حدثنا أبي، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عبد الله- هو ابن مسعود- قال: حَثثتُ على جمل ليلتين، حتى صَبَّحت مدين، فسألت عن الشجرة التي أوى إليها موسى، فإذا شجرة خضراء ترف، فأهوى إليها جملي- وكان جائعا- فأخذها جملي فعالجها ساعة، ثم لفظها، فدعوت الله لموسى، عليه السلام، ثم انصرفت.
وفي رواية عن ابن مسعود: أنه ذهب إلى الشجرة التي كلم الله منها لموسى، كما سيأتي والله أعلم.
وقال السدي: كانت من شجر السَّمُر.
وقال عطاء بن السائب: لما قال موسى {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}، أسمعَ المرأة.